أعكف هذه الأيام على كتاب جديد. وتحديداً عن الحرب الأهلية اليمنية، جذورها الداخلية واطرافها الإقليمية.
لعل الجائحة هي التي دفعتني إلى التفكير في البدء في هذا الكتاب. ومعها طلابي وطالباتي في مادة أدرسها عن اليمن.
كففت عن السفر، فأتسع الأفق للتفكير. فسحة للتنفس. دون عجلة.
ماذا تريدين فعله الان؟
وجدت نفسي افكر في اليمن. وطني الأول. ذاك الذي احبه، متيمة به، رغم انه يخنقني.
وتذكرت إحساسي بالعجز أمام ما يحدث في اليمن. حرب أهلية طاحنة. وشعب اليمن وقودها. والإنسان فيها يذوب ويتلاشى.
ورغم ذلك الخير في اليمن باق. الإنسان فيها يصر على البقاء رغم الطوفان.
هل تعرف عزيزي القارئ ان العاملين والعاملات في جامعة صنعاء لم يستلموا/ن راتباً منذ اكثر من أربعة سنوات؟ ورغم ذلك تستيقظ أستاذة مثل انطلاق المتوكل كل يوم عمل، تعد نفسها، وتذهب لأداء واجبها التعليمي. دون أجر! وغيرها مثلها. الأسبوع الماضي قامت حملة لتسليط الضوء على هذه المشكلة، تطالب بدفع رواتب من يعمل بلا راتب!
كم من من طبيب وطبيبة واجها الموت في هذه الجائحة؟ مِنهمُا القادرُ على السفر. لكنها تبقى. لكنه يبقى. يصران على البقاء في اليمن.
وغيرهما كثر. يعملون ويعملن بصمت.
وإذا كان الفساد وتناحر الفرقاء هو ما نراه ونسمعه في الأخبار يوميا، فإن التلاحم بين أهالي الحارات، من لديه اللقمة يقسمها مع من حوله، هذا التلاحم، هذا الخير يغيب عنا في متاهات الأخبار.
لم تغب اليمن يوما عني. لكن الحرب قتلتني رغم بعُدي.
جاءت الجائحة، ومعه السؤال من جديد. ماذا تريدين فعله الآن؟
خلال هذه الفترة، وتحديداً في فترة الإغلاق، بدأت اقرأ كل ما كتب باللغة الإنجليزية والألمانية عن اليمن في الفترة الأخيرة. استخدم بعض منها في تدريس مادتي عن اليمن. من باحثات وباحثين أحبوا اليمن وكتبن عنها في وقت يشيح المجتمع الدولي عن أزمتها.
في كل محاضرة كنت اسأل طلابي وطالباتي عن المادة المحددة للقراءة. عن تقييمهم وهن لها. صعب أن تُّدرس عن اليمن وتُوصل التعقيد الذي فيها. والاصعب أن تجد مرجعاً يتناول بين دفتيه الجانبين الداخلي والإقليمي معاً، بصورة متوازنة وبحثية موضوعية.
أسئلة طلابي وطالباتي دفعتني إلى التفكير في ذلك المرجع.
في بداية الحرب، جاءت لي فرصة للكتابة عن اليمن. دعوة من دار نشر بريطانية اكاديمية معروفة. وتراجعت. التأني افضل في هذه الحالات. مرت علي أوقات تسألت فيها إن كنت أخطأت في تراجعي. فالكتب كثرت في هذه المرحلة. لكن الوقت اظهر لي ان التأني افضل فعلاً في هذه الحالات. اليمن في بداية الحرب غيرها اليوم. جذورها الداخلية لا زالت قائمة مع تشرذمها، لكن إطارها الإقليمي تغير.
ومع الصمت الذي حط مع الوباء، وأسئلة طلابي وطالباتي، اتضحت الصورة.
الحرب لا محالة ستتوقف. وعندما يتوقف الرصاص عن الحديث سيكون علينا أن نبحث عن مخرج.
نبني الجسور التي هدمناها بالكراهية، نخلق الثقة بعد أن دمرناها. نبني الإنسان بعد أن مزقناه اشلاءاً.
والتحدي هو السلام. يتطلب تخطيطاً ودراسة وتنفيذاً كي يكون مستديماً.
وكما جاء الوباء متمهلاً في البداية، ثم حط علينا فجأة، بدا من الواضح وهو يدنو أن الأمور لن تستمر على ماهي، وأن علينا أن نبحث عن بدائل كي نستمر في فعل ما نعمله.
يوم 16 مارس كان علامة فارقة في سويسرا. اعلن المجلس الفيدرالي "حالة استثنائية" وحجرا صحياً شمل حظرا على جميع المناسبات الخاصة والعامة، وإغلاق المطاعم والحانات والمرافق الترفيهية والمحلات التجارية باستثناء متاجر البقالة والصيدليات. وقبل ذلك، طالبَ كلَ من يقدر من أصحاب العمل التحولَ إلى أسلوب "العمل عن بعد".
كلنا في مختلف ارجاء المعمورة شهدنا مثل هذا الوضع.
وكلنا كان علينا أن نتأقلم بصورة أو بأخرى.
بعضنا توقف عن العمل فترة.
غيرنا فقد عمله.
وبعضنا كان عليه أن يتعلم كيف يعمل عن بعد.
انا من هذا البعض.
بين ليلة وضحاها كان علينا في الجامعة أن نتحول من نمط التدريس داخل قاعات المحاضرات إلى التدريس عن بعد.
بين ليلة وضحاها.
إعلان المجلس الفيدرالي جاء يوم 16 مارس، لكن جامعتي استبقت القرار، توقعته في الحقيقة. كل الدلائل كانت تشير إلى أي اتجاه نسير فيه. ولذا جاءت رسالة رئيسة الجامعة إلى كل من يعمل في الجامعة، يدُّرس أو يَدرس فيها، متوقعة.
"سيكون علينا أن نعمل معاً كي نؤدي رسالتنا التعليمية على أكمل وجه".
كان هذا هو ملخص مضمون رسالتها.
أعيش في سويسرا منذ خمسة وعشرين عاماً. وإذا كان هناك جانب احترمه واقدره في طريقة العمل السويسرية، فهي طريقة التخطيط، التنظيم ثم التنفيذ التي تُدار بها الأمور هنا. كالساعة.
ما حدث في جامعتي، جامعة زيوريخ، وجامعة سويسرية أخرى أُدُرس فيها كأستاذة زائرة ضمن برنامج ماجستير مشترك، كان نموذجاً لفعل ذلك.
وصلت رسالة مديرة الجامعة، ومعها تعليمات واضحة.
مجموعات عمل تم إنشاؤها لمتابعة عملية التحول إلى التدريس عن بعد.
فريق تكنولوجيا المعلومات في الجامعة اخذ يعمل على مدار الساعة كي يجعل من هذا التحول التقني أمرأ واقعاً. كان هو ولازال شريان الحياة الذي مكننا من إنجاز رسالتنا التعليمية كما يجب أن تكون.
وللإنصاف، كلنا كنا نعمل بدون توقف. لا أعتقد أن أيا منا كان قادراً على التوقف عن العمل في نهاية الأسبوع.
خلال أسبوعين تحول التغيير إلى واقع فعلي بدون مشاكل تقنية.
وأنا؟
استغرقني الأمر نحو أسبوعين كي اتعلم كيف استخدم البرامج التقنية للتدريس عن بعد. وثلاثة أسابيع كي اشعر بالاطمئنان وأنا استخدمها. وأربعة كي اشعر بالمتعة وأنا أستخدمها. وخمسة كي أتساءل كيف يمكن استثمارها لكسر الحدود التعليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
واليوم وأنا اكتب هذه الكلمات أجدني اسال نفسي، هل كان ضروريا أن نواجه جائحة حتى أتعلم هذه التقنية الحديثة؟ كي اتعرف على طريقة تكسر الحدود والجدران في التعليم؟
لمَ لَمْ اتعلمها من قبل؟
يمكنني اليوم أن ادُّرس وأحُاضر واتَفاعل مع طالباتي وطلابي عن بعد. اراهم ويروني، يسمعوني وأسمعهن، وكلٌ في مكانه.
في الواقع تحدثت قبل أسبوع مع عميد جامعة استرالية (أيضا عن بعد)، الذي اقترح علي أن القي محاضرة في جامعته في الفصل الدراسي القادم.
هناك أمكانية للتدريس عن بعد ايضاً.
والتقنية المتوفرة المستخدمة من قبل جامعتي وجامعته تمكننا من التدريس دون عوائق.
اية إمكانيات واعدة؟
هائلة.
لو استثمرناها جيداً يمكننا أن نُزيل الحدود التعليمية ونوفر المعرفة والعلم لمن يبحث عنهما.
وأعرف أني أعيش على هذا الجانب المضيء من الأرض. لا أعتذر عن ذلك.
لكني لا انس ولن أنس من يعيش في جانب اخر من المعمورة.
هو أيضاً مطالب بالتأقلم لكن في واقعٍ لا يُشبه واقعي.
صديقة عزيزة، أكاديمية يمنية احترمها وأحبها، حكت لي يوماً كيف استمرت في العمل في زمن الحروب في صنعاء. وكيف تستيقظ يوم محاضراتها، تجهز لها، وتذهب إلى الجامعة رغم أنها لم تستلم راتبها منذ اكثر من عامين.
"غيري يموت جوعاً. وأنا محظوظة أن لدي قدر من الدخل يوفر لي الكرامة". قالت لي.
إلى يومنا هذا أنحني لها إجلالاً.
هي أيضاً تأقلمت.
لكن شتان ما بين التأقلم في زمن السلام وزمن الحروب.
لدينا "حرية الإختيار"، قالها أبي بصوت مرتفع في نقاش محتد مع أصدقاء مقربين له في حلوان، مصر، في نهاية الأربعينات من القرن الماضي.
التاريخ قد لا يكون دقيقا، فالقصة التي احكيها هنا قد تكون حدثت في بداية الخمسينات. فأبي كان كما أمي، يقص علي الكثير من حكاياته. بيد أن التواريخ لم تكن علامات فارقة فيها. ظلت عصية على التحري أو التأكيد.
المؤكد انه كان مع مجموعة من الطلاب اليمينيين المبتعثين إلى مصر.
من مجموعة الأربعين الشهيرة. أول بعثة طلابية خرجت للدراسة خارج اليمن الشمالي خلال فترة الإمامة. ولهذه قصة، ليس هذا مجالها.
ما لم يتوقعه أصدقائه هو المدى الذي سيذهب إليه لإثبات موقفه.
أخذ سكيناً وقطع رسغه، وردد من جديد، "أنا حر قادر على الاختيار".
هكذا.
ببساطة.
نحر نفسه. بنفسه.
لعله كان قد افرط قليلا في الشراب. أو بالأصح كثيرا.
لعله كان غاضباً.
المؤكد أنه كان مقتنعاً بما يقول. كان يؤمن بقوة. ولولا ذاك ما كنت أنا أو أخي. لأنه آمن بنا نحن ايضاً.
ما علينا.
نعود إلى قصة قطع الرسغ.
كان محظوظا لوجود طبيب في نفس العمارة. فالدماء تسيل من رسغه، وأصدقاءه ادركوا أن اخذه إلى أية مستشفى سيثير تساؤلات قد يكون لها عواقب، ولذا اخذوه إلى طبيبهم الجار، وكان نبيلاً. تمكن من إيقاف سيل الدماء المتدفق من رسغه وصَمتَ عن السبب.
_____
"ولدنا أحراراً". كان أبي يكررها على مُّصرا.
"وأنتِ قادرة أن تكوني ما تريدين. لا تركني إلى غيرك. عليك بالعمل، التعلم، الجدية والمثابرة واحترام الوقت. حينها تصنعين مصيرك".
فتحولت إلى تعويذة أرددها على نفسي في حياتي. وفي أوقات الأزمات، كنت أقول لنفسي، "يمكنك ان تشعرين بالأسف على نفسك، أو تصنعي من الألم قوة وطاقة إبداع وإنتاج". وكان خياري دوما هو الحياة. سأعيش. حرة. رغم الوجع.
_____
الحديث عن "حرية الاختيار" يبدو فلسفياً نظريأً، خاصة في زمن الكورونا.
لكن تحديداً في زمن الكورونا فإن خياراتنا لايمكن الإستهانة بنتائجها. لها تأثير. قادرة على التغيير. أو التدمير.
يمكننا أن نختار الخير الذي فينا ونُسخَّره لخدمة الأخرين ومنفعة مجتمعاتنا، ندرك أن مصيرنا واحد، ولذا فإن بقائنا يستلزم أن نعمل معاً، نقف معا، ونحارب الطاعون معاً. كلٌ على قدر إستطاعته. ومعاً سنحيا رغم الطاعون.
وفي إقليمنا ارتفعت أصوات تدعو إلى مثل هذا الطريق. لعل الطريق أمامنا ونحن لاندري؟
أو
أو يمكننا أن نختار طريقاً اخر.
معجون بالخوف والإقصاء.
بالأنانية.
بالجشع.
نسمع عن فنانة تدعو إلى إجراء تجارب اللقاحات على المساجين في بلدها. كأن هؤلاء المساجين أشياءٌ لاحس فيها، يمكن التصرف فيها كالجماد. غيرها من الحقوقيين وصل بهم الحس الإنساني إلى أن يدافع عن القرود والجرذان ويصر على أن لا تتعرض لأية تجارب في المعامل، لأنها ايضاً تشعر بالألم. غيرها لا يشترى مواد تجميل تم تجربتها على حيوانات.
فرق بين تلك وهؤلاء.
نسمع عن أخرى تدعو إلى رمي "الوافدين الأجانب" المصابين بالكورونا في الصحراء. هل هم نفايات يمكن "قطهم في الصحراء"؟ وكنت احترم هذه الفنانة، قبل أن اكتشف أنها والإنسانية على خصام.
نرى اشخاصاً يتضاربون في السوبرماركت، يتصارعون على ورق التواليت. لم أفهم إلى يومنا هذا حكاية ورق التواليت هذه!
تبدو لي كلغزٍ يصعب فك طلاسمه. أفهم أن يتنازع البشر في أوقات الأزمات على اللقمة. يحدث ذلك.
أما ورق التواليت، تظل صعبة على الاستيعاب.
تماماً كما رأينا رئيس دولةٍ كانت يوماً عظمى، يتصرف بمنطق "أنا ومن بعدي الطوفان".
يمكننا أذن أن نختار هذا الطريق.
أن نتحول إلى جزر منعزلة.
أن نتقوقع على ذواتنا، خوفاً وجشعاً.
أو أن نصنع المستقبل، بأذرعنا. مستقبل يليق بالإنسان. الإنسان كما يجب أن يكون. عاملاً، خَيّراً. مُبدعاً. مثمراَ. كهؤلاء العلماء والعالمات في أقطاب المعمورة. يعملون ويعملن ليل نهار معاً للتوصل إلى مصل. والمصل للإنسان على تنوعه.
السؤال إذن يدخل في صميم رؤيتنا للمستقبل، والتي تتحكم في مقدرتنا على بناء الإنسان ومعه الأمم، في الدفاع عن العدالة، وفي التغيير.
لطالما آمنت، ولازلت، بحرية الاختيار. مثل أبي.
لكن إيماني بهذه الحرية كان دوما متشبعاً بقدر من التواضع.
من الإدراك أنه بالرغم من كل ما نفعله، هناك بعض العوامل والقوى التي يمكنها ان تتدخل لتغيير مسار قراراتنا.
فكنت أعمل وأثابر، ويحدث ما يحدث بعد ذلك.
اليوم سيكون علينا أن نختار من جديد.
بين طريق يجمعنا، وأخر يُفَرقنا. والخيار لنا. لكَ ولكي.
تستشعره كطعم العلقم في فم من ذاق مراره العنصرية في بلداننا.
وانا لسعني ذلك الغضب، جعلني اجفل، وتحديداً عندما قرأت كلمات تلك التي تعيش في كندا، تسمي نفسها ناشطة حقوقية تدعو إلى السلام، ثم تعاير يمنية مثلها بهوية والدتها الوطنية.
كأنها شتيمة!
ذكرتني بذلك الذي يسمي نفسه باحثاً ثم أراد أن ينال من باحثة ناشطة يمنية مبدعة بعد مؤتمر في هارفارد، فلم يجد سوى دماءها اليمنية يعايرها بها!
الأولى تعاير باختلاط الدماء، والأخر يعاير بنوع الدماء، وكلاهما عار على نفسيهما.
في عروقي تجري دماءاً مختلطة.
افخر بها. وأجلها.
جدتي مصرية. من الإسكندرية. وأمي وانا وأخي وُلدنا في المحلة الكبرى، مهد الحركة العمالية المصرية.
ومصر أحبها، واعشق نيلها، وأحن إلى دفئها إلى يومنا هذا.
جدتي فيها دماءا تركية. لأن والدها كان إبن ضابط تركي حط رحاله في الإسكندرية. ماما تيته كنا نسميها.
وأبي يمني، من بني حشيش. وفي عروقه جرت دماءا قحطانية وأخرى فارسية، دماء الأبناء لو تعرفون تاريخ اليمن.
وأبي كان يقول "اليمن تشتي (تريد، والأصح تبحث عن) من يحبها"، وأنا لم أكف عن حبها رغم بعدي عنها.
مات أبي وظل حبي لها، حياً نابضاً، لا يموت.
دمائي إذن مختلطة. ليس في ذلك ما يخجل. ليس في ذلك ما يعُيب.
ولمن لا يعرف، وتحديداً أولئك الذي يعتبرون من التنوع عيبة يعايرون بها الغير، فإن اختلاط الدماء له فضائل، "تحُّسن من النسل"، كما يقول البعض. أقول ذلك وانا أكاد ابتسم.
والأهم، ان التقنية الحديثة أصبحت قادرة من خلال تقصي التركيبة الجينية لدمائنا على إظهار مدى تنوع اصولنا، حتى لمن يظن أنه دم خالص "غير متنوع".
وكما دمائي مختلطة. عشت بدوية أحط رحالي من بلد إلى اخر.
عشت في مصر واليمن، المانيا وإيران والمغرب والكويت الولايات المتحدة. إلى أن دققت أوتاد خيمتي في سويسرا. وتزوجت منها.
أعيش فيها مع زوجي السويسري المسيحي منذ خمسة وعشرين عاماً. حتى في زيجتي أعيش التنوع والاختلاف، ولا أتصور نفسي مع رجل غيره.
دراساتي الميدانية اخذتني إلى الشرق الأوسط، ومنها سوريا، وبعض دول شبه الجزيرة العربية، الخليجية تحديداً، ثم دفعتني إلى بريطانيا، وجنوب إفريقيا.
كل هذا الترحال جعلني ادرك امراً واحدا، أننا على اختلافنا وتنوعنا إنسان. قد نختلف في عاداتنا وتقاليدنا، وأذواقنا، لكننا في كل ذلك نظل إنسان، نحب ونكره، نقلق ونفرح، وبالتأكيد لدينا تحيزاتنا.
جعلني أدرك أيضاً أن الخير فينا كما الشر.
وأن هناك وحشٌ رابضٌ فينا، يحَسن بنا أن نتعلم كيف نروضه. نلجمه. ونطوعه حتي يتعلم كيف يكون الإنسان متحضراً، صادقاً، خّيراً ونبيلاً، لا ينطق لسانه بما يؤذي غيره.
ولذا تجدوني أصر على أهمية دولة القانون، تلك التي تلتزم بمعايير احترام المواطنة المتساوية، والحقوق الكاملة. وادافع عزيزاتي عن قيم حقوق الإنسان وضرورة غرسها في نفوسنا، لأنها إن ُّطبقت قادرة على حمايتنا من أنفسنا. من أنفسنا لا غير.
فأنا أيها الأعزاء لا أثق في حسن نوايانا، او اريحية وسخاء نفوسنا. تماماً كما أني لا اريدها صدقة.
كففت عن البحث عن الجنة في السماء. اريدها هنا على هذه الأرض، أساسها أنسان له حقوق وكرامة متساوية.
وكثيرا ما ارتكب الإنسان ابشع الجرائم وهو يبتسم يُصر أنه يدافع عن "عرقه". يبرر خوفه وجهله بأذيه من يعتبره غريباً عنه. يقول ذلك ويستخدم الدين، العرق، الأيديولوجية، والوطن لتبرير كل القبح الذي يسيل من قيح الكراهية الذي يبدر منه.
كل ذاك الترحال جعلني أفهم أيضاً أن أولئك الذين يخافون من التنوع، من الألوان في الإنسان، موجودون في كل ارجاء المعمورة.
هنا أو هناك، العنصرية موجودة.
فكلنا فيها إنسان.
وهي هنا كما أنها هناك.
لكنها لدينا أبشع، لأننا لا نريد ان نراها
وهي لدينا افظع، لأن الصمت لدينا دواؤها.
نجعر ونزعق ونتهم غيرنا بالعنصرية، لكننا قليلاً ما تأملنا ملامح انفسنا في المرآة، قليلاً ما تدبرنا في الأسماء التي نطلقها على من يختلف عنا، قليلاً ما شعرنا بالحياء والخجل من أنفسنا.
ولذا يحدث أن أشعر بالغضب.
غضب لاسع.
أستشعره كطعم العلقم في فم من ذاق مراره العنصرية في بلداننا.
وانا لسعني ذلك الغضب، جعلني اجفل، وتحديداً عندما قرأت كلمات تلك التي تعيش في كندا، تسمي نفسها ناشطة حقوقية تدعو إلى السلام، ثم تعاير يمنية مثلها بهوية والدتها. كأنها شتيمة!
ولو أنها نقبت قليلاً في التاريخ، ستجد أن تلك الدولة كانت امبراطورية شملت اليمن أيضاً، وأنها كما اليمن تتغنى بملكة سبأ.
لكن الجهل أنواع. وجهل العنصري بشع. يؤذي الروح.
ليتها تنظر إلى نفسها، ثم تسأل، "كيف أكون حقوقية وأنطق بكل هذا القيح؟"
لكنها ببساطتها عبرت عن ما يبحثن عنه. حلم جيل جديد، لم يعرف غير الحروب. لكنه يصر أن يحلم. يحلم بوطن يحبه كما يحبوه.
يريدون وطناً. يردن وطناً.
وطن يحترم كرامتك. أدميتك. حقوقك المتساوية. وطن يضع الإنسان في مقلتيه. وطن لا يسألك عن مذهبك. عن دينك. عن جنسك. عن مكانتك المجتمعية.
للإنسان فيه. مواطن ومواطنة.
وطن للجميع.
تلك العبارة كانت محور عرض مسرحي قصير بعنوان "ظلي يتكلم" تم تقديمه في تونس على هامش مهرجان أدب المرأة العربية "صوتي قلمي" في يناير 2020. العرض كان من فكرة وإعداد وتنفيذ مدربة الكتابة الإبداعية نداء محسن، ومثلته باقة من الكاتبات والمبدعات العراقيات المشاركات في المهرجان.
عرض قصير. لم يستغرق أكثر من عدة دقائق. لم ينطقن فيه بكلمة. فتاة تتوسط مجموعة من الفتيات. كلهن يضعن شريطاً لاصقاً على أفواههن. هي جالسة على ركبتيها. تحتضن علم العراق. كطفل صريع. يلفظ أنفاسه بين ذراعيها.
تحتضنه وتمد يدها إلى من حولها. وهن يردوها بجلافة. هن يشيحن بوجوههن. هن كالصخر. لا يستجبن.
تبداً بخربشة كلمات على لوحات. بسرعة. بلهفة. أول لوحة "نريد وطن". تقدمها لإحدى الواقفات. تضعها على صدرها. فتأخذها منها وتمزقها.
تنحني وتكتب من جديد. بحرقة. لوحة ثانية "سلمية". ترفعها وتقدمها إلى غيرها من الواقفات. نفس ردة الفعل. باردة. تعرض بوجهها، ثم تقذفها بصلافة.
تنحني من جديد وتكتب. لافتة جديدة "أوقفوا قتل الناشطين". لكن من حولها لا يبالي. يتحركون حولها بلا اكتراث.
عن أي وطن تتحدثين؟
يصعب عليها ذلك الصمت. ذلك الخذلان. فتأخذ علم العراق وتلفه حول نفسها. وتمسك باللوحة. "نريد وطن". تقف وحيدة وسطهن. ثم يرتفع صوت الرصاص. لتسقط صريعة. حينها يتحركن. تتقدم إحداهن. تأخذ العلم وتلفه حولها من جديد. تبدأ المجموعة في الانتباه. يرفعن الشريط اللاصق عن افواههن. ثم يقفن صفا واحداً. ويغنين ذلك النشيد الذي نعرفه جيداً "موطني".
في تلك اللحظة، انتبهت إلى ان الدموع تسيل على وجهي، منهمرة، تماماً كما كانت تسيل على وجوه كل من حولي.
كنا كاتبات، من مصر، لبنان، سوريا، العراق، الأردن، ليبيا، تونس، واليمن.
ودموعنا اجتمعت على تلك العبارة.
القاعة بأسرها كانت تنعي وطناً. وطناً شارداً. نبحث عنه.
كان هماً واحداً.
كان وجعاً واحداً.
جمعنا على اختلاف بلداننا.
نريد وطناً. يحترمنا.
نريده أن يحبنا كما نحبه.
كي نبنيه بأذرعنا.
تلك الدموع التي ذرفناها جعلتني ادرك من جديد ان التغيير ممكن، وأن الصمت جريمة، وأن الإنسان فينا هو الحل. هو القادر على التغيير.
مجموعة من العراقيات الشابات المبدعات ذكرتنا بذلك الحلم. حلم جيل جديد، لم يعرف غير الحروب. لكنه يصر أن يحلم. يحلم بوطن يحبه كما يحبوه.